(أَكُونُ مَعَكَ (يش 1 : 5

Home Login Part To The End
Login Form

الصلاة الربانية

"أبانا".

عندما ننطق بأفواهنا أن الله رب كل المسكونة هو أبونا، نعترف أننا قد دُعينا من العبودية إلى التبني كأبناء. وإذ نردف قائلين "الذي في السموات" نتحاشى بكل مخافة إطالة البقاء في هذه الحياة الحاضرة، عابرين هذه الأرض كمن هم في رحلة. فنسرع مشتاقين إلى المدينة التي نعترف بأن أبانا يقطنها. ولا نسمح لأي شيء يفقدنا الاستحقاق لموطننا الأبدي ولشرف التبني، ناظرين إليه كعار يحرمنا من ميراث أبينا، وبه يحل بنا غضب عدله وصرامته. فإذ نتقدم إلى هذه الحالة من "البنوة"، نشتعل بالتقوى كما يليق بأبناء صالحين، فننحني بكل طاقاتنا، ليس ابتغاءً لنفع خاص، إنما لأجل مجد الله، قائلين له: "ليتقدَّس اسمك". وبهذا نشهد أن رغبتنا وفرحنا هو مجده، مقتدين بالذي قال: "مَنْ يتكلم من نفسهِ يطلب مجد نفسهِ، وأمَّا مَنْ يطلب مجد الذي أَرسلهُ فهو صادق وليس فيه ظلم" (يو18:7). أخيرًا إذ امتلأ الإناء المختار بهذه المشاعر (عدم الأنانية) رغب أن يكون محرومًا من المسيح (رو3:7) من أجل شعبه... ويقول أيضًا: "لأننا نفرح حينما نكون نحن ضعفاءَ وأنتم تكونون أقوياءَ" (2كو9:13). لنعبر أيضًا إلي مستلم الشريعة الذي لم يرفض أن يموت مع اخوته الذين حُكم عليهم بالموت قائلاً: "والآن إن غفرت خطيتهم وإلاَّ فامحُني من كتابك الذي كتبت" (خر32:32). حين نقول "ليتقدس اسمك" يليق بنا جدًا أن نفهمه بهذا المعنى "تقديس الله هو كمالنا"، أي اجعلنا أيها الآب قادرين أن نفهم ونسلك بما فيه تقديس اسمك، أي نشهد لك يا الله بسلوكنا كروحيين بتغيّرنا الروحي، إذ يرى الناس أعمالنا ويُمجدوا أبانا الذي في السموات (مت16:5)...

"ليأْتِ ملكوتك".

الطلبة الثانية هي أن يرغب القلب النقي في مجيء ملكوت أبيه للحال، بمعنى أن يملك السيد المسيح يومًا فيومًا في القديسين، ويتأتى ذلك بطرد سلطان الشياطين من قلوبنا، وإبادة وسخ الخطية، ويبرأ بمُلك الله علينا خلال حلاوة عبير الفضائل، فينهزم الزنا وتملك الطهارة على قلوبنا. ويملك الهدوء بتقهقر الغضب، والاتضاع بوطء الكبرياء تحت الأقدام. يعني (بالملكوت) ما قد وُعد به كل الكاملين وأبناء الله حين يقول لهم السيد المسيح: "تعالوا يا مباركي أبي رِثُوا الملكوت المعَدَّ لكم منذ تأسيس العالم" (مت34:25). فالقلب يشتاق إلى الملكوت بنظرة ثابتة قوية ويحنّ إليه مخاطبًا الله: "ليأت ملكوتك"، لأنه يعلم بشهادة ضميره أنه عندما يأتي الرب سيشاركه في الميراث. فلا يقدر إنسان خاطئ أن ينطق بهذا، ولا يرغب فيه، لأنه لا يريد أن يواجه كرسي قضاء الديان وهو يعلم أن في مجيئه لا ينال مكافأة بل عقابًا...

"ليأْتِ ملكوتك".

الطلبة الثالثة للأبناء هي "لتكن مشيئَتك كما في السماءَ كذلك على الأرض". لا يمكن أن توجد صلاة أعظم من الاشتياق أن تكون الأمور الأرضية مساوية للسمائية. لأنه ماذا يعني القول: "لتكن مشيئَتك كما في السماءِ كذلك على الأرض" سوى السؤال من أجل البشر ليكونوا مثل الملائكة؟ فكما تمّت مشيئة الله بواسطتهم في السماء، هكذا ليت الذين على الأرض لا يفعلون مشيئتهم الذاتية بل مشيئة الله! هذه الطلبة لا يمكن أن ينطق بها من القلب إلا الذي آمن أن الله يدبر كل الأمور المنظورة لخيرنا، سواء الأمور المبهجة أو المؤلمة، وأنه مهتم بما لخيرنا وخلاصنا أكثر من اهتمامنا نحن بأنفسنا. على أي الأحوال يمكن أن تؤخذ بهذا المعنى: إرادة الله هي خلاص كل البشر وذلك كقول الرسول: "الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحقّ يُقبلون" (1تى4:2)... فعندما نقول: "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض" نصلّي أن يخْلص جميع الذين يسكنون في الأرض وذلك مثل أولئك الذين سبقونا إلى السماء (الكنيسة المنتصرة)، إذ عرفوك أيها الآب.

"الخبز اليومي".

"أعطنا الخبز الجوهرى" والذي يدعوه إنجيل آخر "خبزنا اليومي". الأولى تشير إلى سموّ هذا الخبز من حيث أنه فوق كل المواد، ويشير إلى عُلو جلاله وقداسته الذي يفوق كل المخلوقات. أما الثانية فتشير إلى غاية استخدامه وقيمته. فإذ يقول أنه "يومي" يظهر ضرورة استخدامه يوميًا غير مكتفين بأننا اقتنيناه بالأمس... حاجتنا اليومية إليه تُلزمنا أن نقدم هذه الصلاة في كل الأوقات، لأنه لا يوجد وقت لا تكون فيه حاجة إليه ليتقوّى قلب إنساننا الداخلي بأكله وتقبله. هذا بالرغم من أن كلمة "اليومي" تستخدم بمعنى "الحياة الحاضرة" بمعنى هب لنا في هذه الحياة الحاضرة أن نقتات الخبز. فنحن عالمين بأنك ستهبه فيما بعد لمن يستحقونه، لكننا نسأل أن تعطينا إيّاه الآن، لأنه مالم يوهب الإنسان في هذه الحياة لا يمكن أن تكون له شركة فيما بعد

اغفر لنا ما علينا

اغفر لنا ما علينا كما نغفر نحن ما عليهم". تهبنا المراحم الإلهية غير المنطوق بها شكل الصلاة وتعلمنا نظام الحياة المقبولة عند الله، إذ عن طريق الطلبات الواردة في نموذج الصلاة المُقدم لنا أوصانا أن نصلّي على الدوام أن ينزع عنا جذور الغضب والغمْ. كذلك تُعلن المراحم الإلهية للمصلّين الطريق الذي به ينعمون بحكم الله المملوء رحمة وشفقة، إذ تهب لنا قوة لتلطيف حكم دياننا، مغتصبين حكمه بغفران خطايانا على مثال عفونا نحن للآخرين، وذلك عندما نقول: "اغفر لنا كما نغفر نحن". هكذا بغير قلق، في ثقة بهذه الصلاة، يمكن للإنسان أن يطلب عفوًا عن معاصيه، إن غفر للذين يسيئون إليه... على أي الأحوال من لا يغفر من قلبه لأخيه الذي أساء إليه لا يجلب لنفسه بهذه الصلاة غفرانًا بل دينونة. وبعمله هذا يطلب لنفسه السقوط تحت الحكم بأكثر قسوة فهو يقول: "اغفر لي كما أغفر أنا أيضًا"، وإذ لا يحقق ما جاء في طلبته، ماذا يستحق سوى أن يُعاقب بغضب غير محتمل وحكم لا يُستأنف كما يفعل هو بعدم عفوه للغير؟! فإن أردنا أن نُحاكم بالرحمة يلزم أن نكون رحماء تجاه من يسيئون إلينا، لأننا سننال العفو عندما نعفو للذي يضرنا مهما كان مؤذيًا. عندما يتغنى كل الشعب بهذه الصلاة في الكنيسة يخشى البعض هذه العبارة فيصمتون حاذفين إياها حتى لا يربطوا أنفسهم بدلاً من أن يحلوها وهم في هذا لا يعلمون أنهم باطلاً يحاولون مراوغة ديان كل البشرية الذي يشاء أن يكشف لنا سلفًا كيف يدين المتوسلين إليه. لأنه لا يريد أن يكون مضايقًا لهم، بل يشير إلى طريقة إدانته، حتى نحكم على اخوتنا متى أخطأوا في حقنا بالحكم الذي نرغبه بالنسبة لأنفسنا، لأن الحكم بلا رحمة لمن لم يستعمل الرحمة.

لا تدخلنا في تجربةٍ

هنا يثور سؤال ليس بتافه، وهو إن كنا نصلّي ألا نعاني من التجربة فكيف تتزكى قوة احتمالنا كالقول: "طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة" (يع12:1)؟ العبارة "لا تدخلنا في تجربةٍ" لا تعني "لا تسمح لنا بتجربة"، لأن أيوب جُرِّب لكنه لم يدخل في تجربة إذ لم يصف الله بأيّ تجديف ولا استسلم بفم شرير كرغبة المجرب نفسه. إبراهيم جُرِّب ويوسف جُرِّب، لكن لم يدخل أحدهما في تجربة لأنهما لم يستسلما مرضيين للمجرب. جاء بعد ذلك "لكن نَجِنّا من الشّرِّير"، أي لا تسمح لنا أن يجربنا الشيطان فوق ما نحتمل بل تجعل مع التجربة المنفذ لنستطيع أن نحتمل (1كو13:10).

لنصل بما ورد في الصلاة الربانية

ها أنتم ترون نموذج الصلاة المقترح علينا بواسطة الديان نفسه، الذي نصلّي إليه. فالصلاة لا تحوي طلبات من أجل الغنى، ولا فكرًا تجاه الكرامة، ولا سؤالاً من أجل القوة والعظمة، ولا إشارة إلى القوة الجسدية والحياة الزمنية. هكذا يقدم الإنسان إهانة شديدة لعظمة الله وجوده إذا ما ترك الطلبات الأبدية واختار أن يسأله أمرًا تافهًا غير ثابت. وأيضًا بدناءة صلاته يجلب لنفسه غضبًا عِوض استعطاف الديان.

بركات الصلاة الربانية

هذه الصلاة إن بدت شاملة لكل ملء الكمال، إذ مؤسسها ومرتبها سلطان الرب نفسه، إلا أنها ترتفع بمن يستخدمها إلى حالة علوية سبق أن تحدثنا عنها، وتحملهم إلى صلاة مملوءة حرارة... هذه التي بالحقيقة نعجز أن ننطق بها، إذ تفوق كل أفكار البشر، ولا يميزها صوت أو حركة لسان...! فإذ يستنير الذهن بانسكاب نور سماوي لا يصفه لسان بشر محدود، بل ينسكب بغنى كما من ينبوع غزير في أذهاننا، وتتحدث مع الله بطريقة لا تُوصف، وتُعبِّر في أقصر زمن ممكن عن أمور عظيمة لا يقدر الذهن أن يعبِّر عنها أو يرويها بسهولة بحسب قدرته البشرية المجردة (أو المحدودة).